الضجة التي أثارتها زيارة السفير الإسرائيلي في القاهرة لمؤسسة الأهرام
أعادت فتح ملف التطبيع الملتبس، بقدر ما أنها سلطت ضوءًا كاشفا على أزمة
الحركة الوطنية المصرية.
(1)
القصة احتلت مكانا بارزا في
الوسط الإعلامي على الأقل، فشغلت المثقفين طوال عشرة أيام كما أثارت غضب
شباب الأهرام واللجنة النقابية بالمؤسسة. واستنفرت نقابة الصحفيين التي
اتجهت إلى مساءلة الدكتورة هالة مصطفى رئيس تحرير مجلة الديمقراطية التي
تصدرها المؤسسة، والتي استقبلت في مكتبها السفير الإسرائيلي شالوم كوهين.
بدا
المشهد مسكونا بالمفارقات، إذ في حين أسرفت الصحف المستقلة في متابعة
الموضوع فإن الصحف القومية سكتت تماما إزاءه، بسبب التزامها بالموقف
الرسمي المؤيد للتطبيع، من ناحية ثانية، فإن عددا غير قليل من الذين
شاركوا في الضجة انصب احتجاجهم على استقبال السفير الإسرائيلي في مبنى
صحيفة عريقة مثل "الأهرام"، فيما بدا أنه غضب للمكان وليس اعتراضا على
مبدأ الزيارة، بمعنى أن الأمر كان يمكن أن يمر بسلام لو أن اللقاء تم في
مكان آخر.
من ناحية ثالثة فإن الذين سربوا الخبر ومن ثم أطلقوا
الشرارة الأولى للحملة كانوا خليطا من أنصار التطبيع ومن المقربين إلى
لجنة السياسات، مما أعطى انطباعا قويا بأنهم ليسوا ضد التطبيع وإنما هم
بالدرجة الأولى ضد الدكتورة هالة مصطفى، كأنما صرنا بإزاء تصفية حسابات
بين أعضاء الحزب الحاكم.. من ناحية رابعة فإن الضجة المثارة وضعت بعض
القيادات الصحفية في حرج بالغ، لأن رئيس مؤسسة الأهرام من أركان جماعة
كوبنهاجن ومن أنصار التطبيع. كما أن نقيب الصحفيين من أوائل الذين زاروا
إسرائيل في عهد الرئيس السادات.
هذه الأجواء تعكس حالة البلبلة
الحاصلة في صر بصدد موضوع التطبيع. فالمجتمع ضد التطبيع والسلطة معه، وفى
أحسن أحوالها فهي ليست ضده، أما المثقفون فهم منقسمون بين مؤيد ومعارض له.
ورغم أن المؤيدين قلة، فإن صوتهم أعلى، خصوصا أن السلطة احتضنت بعضهم
ومكنتهم من تبوء مراكز متقدمة في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها، فأعطوا
حجما أكثر مما ينبغي ومن ثم أحدثوا تأثيرا لا يمكن إنكاره.
(2)
حين
يذهب السفير الإسرائيلي بنفسه للقاء رئيسة تحرير مجلة مغمورة ومحدودة
التوزيع، فإن ذلك يكشف عن مدى الدأب والإلحاح الذي بذله الإسرائيليون
لاختراق الساحة الإعلامية في مصر. وهو ما يذكرنا بكلام وزير الأمن الداخلي
الإسرائيلي آفي ديختر في محاضرته الشهيرة التي استشهدت بها أكثر من مرة.
وقال فيها إن إسرائيل لكي تثبت أقدامها في مصر، فإنها تعتمد على ركائز
أولها "إقامة شراكة مع القوى والفاعليات المؤثرة والمالكة لعناصر القوة في
البلد وهى: الطبقة الحاكمة- وطبقة رجال الأعمال- والنخب الإعلامية
والسياسية".
هذا الكلام الذي ردده الرجل في معهد أبحاث الأمن القومي
(في 4 سبتمبر عام 2008)، تترجمه الممارسات الإسرائيلية في مصر، التي لا
يشك أحد في أنها حققت نجاحات مشهودة في أوساط النخب سابقة الذكر.
لقد
بدأ اختراق الوسط الصحفي- الذي يعنينا في الوقت الراهن- بموقعين أساسيين
هما: مجلة أكتوبر تحت رئاسة الأستاذ أنيس منصور، ومركز الدراسات
الإستراتيجية بالأهرام تحت رئاسة الدكتور عبد المنعم سعيد. ذلك أنه ما من
صحفي أو باحث إسرائيلي جاء إلى مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلا وبدأ
رحلته انطلاقا من أحد هذين الموقعين، حتى إن بعض الصحفيين وصفوا دار
المعارف التي تصدر مجلة أكتوبر بأنها أصبحت دار "معاريف" (أحد محرري
المجلة أعلن على شاشة التليفزيون أنه زار إسرائيل 25 مرة) وبات معلوما أن
بعض باحثي مركز الدراسات يحتفظون بعلاقات وثيقة مع الباحثين الإسرائيليين.
المدى
الذي بلغه الاختراق الإسرائيلي لأوساط النخب المصرية ليس مرصودا بوضوح
عندنا، لأن ما يتم منه خارج الدوائر الرسمية يحاط بتكتم وحذر شديدين
لأسباب مفهومة، لكن الصورة من الجانب الإسرائيلي أكثر وضوحا. وقد تحدث
عنها ببعض التفصيل السفير الإسرائيلي في القاهرة شالوم كوهين، في حوار
نشرته له صحيفة "الشرق الأوسط" في 13 سبتمبر الحالي. إذ ذكر أنه خلال
السنوات الأربع الأخيرة حدث تقدم كبير في مسيرة التطبيع، تم من خلال
الحوار المستمر مع وزارات الخارجية والتجارة والصناعة والزراعة والسياحة،
وهو ما أدى إلى استئناف عمل اللجان العسكرية والأمنية المشتركة، وتحت هذه
العناوين هناك تفصيلات كثيرة، منها مثلا أن اللجنة الأمنية المشتركة بين
البلدين تجتمع بصفة دورية مرتين سنويا، مرة في القاهرة والأخرى في تل أبيب.
منها
أيضا أن إسرائيل استقبلت هذا العام 200 مبعوث من وزارة الزراعة للالتحاق
بدورات دراسية تستمر ما بين شهر وشهر ونصف الشهر. منها كذلك أن حجم
التبادل التجاري بين البلدين تضاعف ثلاث مرات ووصل إلى 400 مليون دولار.
منها أيضا أن زيارات المسئولين الإسرائيليين لمصر كثيفة، إلى درجة فاقت
زياراتهم لدول أوروبية صديقة مثل فرنسا وهولندا وبلجيكا.
عن
المثقفين والفنانين قال السفير الإسرائيلي إنه يحتفظ بعلاقات واسعة معهم.
وقد التقى أخيرا بواحد من "كبارهم"، اعتذر عن عدم ذكر اسمه. كما اعتذر عن
عدم ذكر أسماء الذين يحضرون الحفلات التي يقيمها ويتبادل معهم الزيارات أو
الذين يرحبون بالمثقفين الإسرائيليين الذين يفدون إلى القاهرة، ولم يذكر
من أسماء هؤلاء وهؤلاء سوى الدكتور عبد المنعم سعيد والدكتورة هالة مصطفى.